تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 9 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 9

9 : تفسير الصفحة رقم 9 من القرآن الكريم

** وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
يقول تعالى لائما على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة, ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدو} الاَيات. وقال آخرون هي أريحاء, ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء, وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر, حكاه الرازي في تفسيره, والصحيح الأول أنها بيت المقدس, وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح, ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد {سجد} أي شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال, قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى {وادخلوا الباب سجد} أي ركعاً, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وادخلوا الباب سجد} قال ركعاً من باب صغير, رواه الحاكم من حديث سفيان به, ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل أستاههم, وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي, وحكي عن بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته, وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة, وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء بيت المقدس, وحكى الرازي عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القبلة, وقال خصيف قال عكرمة قال ابن عباس فدخلوا على شق, وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجّداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا, وقوله تعالى: {وقولوا حطة} قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وقولوا حطة} قال مغفرة استغفروا, وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه, وقال الضحاك عن ابن عباس {وقولوا حطة} قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم, وقال عكرمة قولوا {لا إله إلا الله} وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى {وقولوا حطة} فكتب إليه أن أقروا بالذنب, وقال الحسن وقتادة أي أحطط عنا خطايانا {نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} وقال: هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكن الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى كما قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواب} فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر, وفسره ابن عباس بأنه نعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه, ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً, ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك, ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى, فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى, وقال آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم, وقيل يصليها كلها بتسليم واحد, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} قال البخاري حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجداً قولوا حطة ـ فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة» ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى:: {حطة} قال: فبدلوا وقالوا حبة, وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله لبني إسرائيل: {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة» وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد بن حميد كلهم عن عبد الرازق به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلوا الباب ـ الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً ـ يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة» وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله, هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً, وقال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري, قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم» وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: {سيقول السفهاء من الناس} قال اليهود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً قال: ركعاً, وقولوا حطة أي مغفرة, فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة, فذلك قول الله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة, فقالوا حنطة, حبة حمراء فيها شعيرة, فأنزل الله: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا هطا سمعاتا أزبة مزبا, فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى: {ادخلوا الباب سجد} قال ركعاً من باب صغير, فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة, فذلك قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم وأمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا, فاستهزؤوا فقالوا حنطة في شعيرة, وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته. ولهذا قال: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب, وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب, وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد, وقال سعيد بن جبير هو الطاعون, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم, قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم» وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به, وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت «إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها» الحديث, قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري, قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الوجع والسقم رجز عُذب به بعض الأمم قبلكم» وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه.

** وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من إثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولاكد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليهالسلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول, وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني اسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا, وقال قتادة: كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه, وقال الزمخشري وقيل كان من الرخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار, قال: وقيل اهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هوالحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل, فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر, وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه, قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس, فقالوا إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا, فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون, والله أعلم, وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر: كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين, وقال الضحاك: قال ابن عباس لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً, وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها, وقال مجاهد نحو قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية, فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل لهم. وأما في هذه السورة ـ وهي البقرة ـ فهي مدنية, فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم,. وأخبر هناك بقوله: {فانبجست منه اثنتا عشرة عين} وهو أول الانفجار, وأخبر ههنا بماآل إليه الحال آخراً وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار ههنا وذاك هناك, والله أعلم, وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده, والأمر في ذلك قريب. والله أعلم.

** وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه, وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه, وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم فقالوا: {ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصله} وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم, فهو مأكل واحد: فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة, وأما الفوم, فقد اختلف السلف في معناه, فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء, وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه, بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن رافع, حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصريو عن يونس, عن الحسن, في قوله: {وفومه} قال: قال ابن عباس: الثوم, قال وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا, قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً, فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر, وأثافي وأثاثي, ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما, والله أعلم. وقال آخرون: الفوم الحنطة, وهو البر الذي يعمل منه الخبز قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أنبانا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس: سُئل عن قول الله: {وفومه} مافومها ؟ قال الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح, وهو يقول:
قد كنت أغني الناس شخصاً واحداًورد المدينة عن زراعة فوم

وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن, حدثنا مسلم الجهني, حدثنا عيسى بن يونس, عن رشيد بن كريب, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله تعالى: {وفومه} قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم, وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة, وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء {وفومه} قالا: وخبزها, وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك {وفومه} قال: الحنطة, وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن يزيد بن أسلم وغيرهم, فالله أعلم, وقال الجوهري: الفوم: الحنطة, وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة, وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص, لغة شامية, ومنه يقال لبائعه: فامي, مغير عن فومي, قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم وقوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع, وقوله تعالى: {اهبطوا مصر} هكذا هو منون مصروف, مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك. وقال ابن عباس {اهبطوا مصر} قال: مصر من الأمصار, رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك, وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود {اهبطوا مصر} من غير إجراء, يعني من غير صرف ثم روي عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون, وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً قال وابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قواريراً قوارير} ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟ وهذا الذي قاله فيه نظر, والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره, والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه, فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولهذا قال: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} أي ما طلبتم, ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
يقول تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً أي لا يزالون مستذلين, من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار, وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون. قال الضحاك, عن ابن عباس: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} قال: هم أصحاب النيالات يعني الجزية. وقال عبد الرزاق, عن معمر, عن الحسن, وقتادة في قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة} قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون, وقال الضحاك: وضربت عليه الذلة , قال: الذل. وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم, وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية, وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة, وقال عطية العوفي: الخراج, وقال الضحاك: الجزية, وقوله تعالى: {وباؤوا بغضب من الله} قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله, وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله, وقال سعيد بن جبير: {وباؤوا بغضب من الله} يقول: استوجبوا سخطاً, وقال ابن جرير: يعني بقوله: {وباؤوا بغضب من الله} انصرفوا ورجعوا, ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء, ومنه قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب, ووجب عليهم من الله سخط. وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله, ويقتلون النبيين بغير الحق} يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة, وإحلال الغضب بهم من الذلة, بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله, وإهانتهم حملة الشرع, وهم الأنبياء وأتباعهم, فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم, فلا كفر أعظم من هذا, إنهم كفروا بآيات الله, وقتلوا أنبياء الله بغير الحق, ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل, عن ابن عون, عن عمرو بن سعيد, عن حميد بن عبد الرحمن, قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النجوى, ولا عن كذا ولا عن كذا, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي, فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله, قد قسم لي من الجمال ما ترى, فما أحب أن أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما,أليس ذلك هو البغي ؟ فقال: «لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر, أو قال: سفه الحق وغمط الناس» يعني رد الحق, وانتقاص الناس, والازدراء بهم, والتعاظم عليهم, ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله, وقتلهم أنبياءه, أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد, وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الاَخرة جزاء وفاقاً, قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن أبي معمر, عن عبد الله بن مسعود, قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي, ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبان, حدثنا عاصم, عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أوقتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين} وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي, والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به, والله أعلم.